الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة هذا هو نص الخطاب الذي ألقاه الشاعر الكبير ولاد حمد خلال حفل تكريمه بالمسرح البلدي

نشر في  05 أفريل 2016  (17:22)

انتقل الى جوار ربه منذ قليل بالمستشفى العسكري بالعاصمة الشاعر الكبير الصغير اولاد حمد، وذلك بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان.

ويذكر ان المرحوم الشاعر توفي بعد يومين فقط من احتفاله بعيد ميلاده..

بهذه المناسبة الاليمة يعيد موقع الجمهورية، نشر الخطاب الذي ألقاه ووجّهه الشاعر الكبير أولاد حمد اثناء تكريمه يوم الاربعاء 14 أكتوبر 2015 بالمسرح البلدي: 

"أيها الناسُ:
فيما أنا واقفان
وظلّي يلاطفُ ظلاًّ تعثّرَ فيهِ

وعينايَ في السهلِ سارحتانِ 
و"سانْشو" يُثنّي على وهْمِ سيّدهِ... 
والطواحينُ دوّارةٌ في الهواءِ

وابن قتيبةُ تحرقهُ الشمعاتُ.. 
يحاولُ أنْ ينْصرَ الشعراءَ على العلماءِ

ونُسّاخُ تاريخنا يكذبونَ على أمسِنا وعلى آننا وعلى غدِنا

وبعضُ الإناثِ يُهيّجْنَ بعضَ الخيولِ 
وعمرو يقبل هندًا..
وهندٌ تقبلُ قبرَ الرسول

وآخيلُ في السهل يستحلف الوفدَ:
"هيلانةٌ.. أو أعودُ إلى موطني لا أحاربُ"

ونوحٌ ينوءُ يغرْقاهُ، تحتَ المراكب، في"لَمْبَدوزا"

وآدمُ،
منْ فرط ما جاعَ،
يأكلُ حوّاءَ والغصنَ...والشجرةْ
.....................................
وفيما أنا فيهْ
تفاجأتُ بالحبّ والمرض التّافهِ

فأمّا الذي هو حبٌّ
فأنتمْ..
وأنتنَّ
والطبُ
والوَردُ
والعودُ
والنّايُ
والخطُّ 
والرّسمُ
والوزراءُ 
وقصرُ الرئاسةِ
وأهل السياسةِ
والجيْشُ
والآمنُ
والحرسُ الوطنيِّ
ودمْعُ الشغوفاتِ بالشعر
...في زمن القتل باسم عذارى الجنانْ

وأما الذي هو أتْفهُ من مرض تافهِ
فاني أداويه يوما
وأكتب يوما 
وأصرخ يوما
وأمزحُ يومًا
..........................
وبي حرجٌ أنّ هذا سيشغْلكمْ عنْ مصيرِ البلادْ

أيها الحضور الكريم:

إنّ هذا التكريم يتجاوز شخصي المتواضع إلى تكريم الخطاب الشعري ذاته، باعتباره نَواةَ الحياة. الحياة التي نحن غافلون عنها بسبب خطاباتٍ مُغْلَقةٍ، دينيةٍ وعقائديةٍ وإيديولوجيةٍ، تشتغل كلُّها إمّا في ألما - قبل وإمّا في ألما – بعد.. دون أن تعيَ خصائص اللحظات وفرادتها في مسطرة الزمن وفي حياة الإنسان..عموما.
ومن المصادفات المبهجة أن يتزامن هذا التكريم مع تكريم الشعب التونسي بجائزة نوبل للسلام لهذا العام، مكافأةٌ له على خروجه غيرَ مُفتَّتٍ الى شعبيْن اثنيْن، وعلى خروجه نصفَ سالم من كهف الخرافة المليء بالحناش والضباع والغيلان.
تونس التي هي موضوع كتابتي الوحيد، شعرا ونثرا وكلاما ومشْيا وحُلْمًا وشرابا، منذ انخراطي في الكتابة وإلى هذه اللحظة.
تونس التي هي اسم أمي كذلك..فقد كان أجدادنا، زمنَ الاستعمار، يسمون النساء باسم البلاد حتى لا تنسى القبائلُ اسم الوطن. 

في بداياتها التكوينية، لم تجد الثورة التونسية، لا قوالبَ إيديولوجية، ولا آيات قرآنية ولا أحاديثَ محمدية ولا تخريجاتٍ فقهيةٌ ولا فتاوى عثمانية، يمكن أن تعتمد على ثوريتها وترفعها كشعارات في الساحات العامة للتعجيل بإعلان نهاية الاستبداد السياسي.
فالدين، كما تعلمون، هو ضديد للثورة، لكونه يثبّتُ تعاليمَ مطلقة صارمة بدل اقتراح قوانين نسبية قابلة للتحيين والإبدال.. وهذا لا يخص الإسلام وحدَه بل يخص الأديانَ جميعَها.
كلُّ ما وجَدَتْه الثورةُ هو الشعر.
الشعر الممزوج بعذابات الوطن
الشعر:مطبوعا ومقروءا ومغنًّى..

فكان كل بيت شعري تردده الجماهير، في تونس وعلى طول الخارطة العربية، يطيلُ في إيمانها بحتمية النصر ويقلل من خوفها من الحرية والانعتاق. وهو خوف تعودت عليه لمدةقرون طويلة وليس زمن الاستقلال فحسب.

أما كيف تحولت هذه الثورة، في ما بعد، إلى كابوس لغوي، بعضه فقهي وبعضه خرافي، بعضه دستوري وبعضه جهلاني، بعضه ما دون – فكري وبعضه إرهابي.. فالرأي عندي أن السبب يعود إلى تحويل وجهة الثورة من حلم شعري / تخييلي / إبداعي إلى عقوبة / أصولية / رجعية / مخابراتية، لا مجال فيها لاستعمال الخيال والحُلم، يشرف على تنفيذها بشرٌ مثلنا ادّعوا، جهارا وفي أكثر من منبر ومناسبة، أن الله هو إلههم هم فقط من دون غيرهم من سائر التوانسة ومن مجمل البشر.

ومن حسن الحظ، وعلى عكس ما كانوا يتوقعون،فقد ازداد إيمان المغدورين في ثورتهم، بمرتبة الكلمة وبمقام الشعر...

ولعل هذا التكريم الرسمي، الذي سبِقَه اعتراف شعبي واسع، خير دليل على أن الشعوب تُخيّر رحابةَ النصوص التي تتغنّى بحق الحياة على انغلاق النصوص التي تتغنى بواجب الموت ما بعد الحياة وأثناء الحياة..كذلك.

على أمل أن يفتتح هذا التكريم سلسلة من تكريمات أخرى مستحقةٍ لكتاب وفناني تونس، وأن تتوضّح صفةُ وحقوقُ المبدع في التشريعات المطروحة الآن على طاولة الحكومة، أرحب بكم مجددا، وأعلن على الملأ أنني أحبكم ، وأنني سأحبكم بالقدر الذي تحافظون فيه على كيان تونس:
تونس الموجودة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط
وليس تونس الموجودة في صحارى القارة الآسيوية أو داخل بعض المُخيِّلات العجيبة الخطرة.

صورة: مراد الزارعي